د. نوال السعداوى تكتب : شرف الإنسان.. ليس له قيمة فى برامج الأحزاب والجمعيات
١٦/ ٢/ ٢٠١٠
ملايين الأطفال المعذبون فى الأرض، لسوء حظهم ولدوا فى بلاد يغيب فيها العدل، يفرق الدستور فيها بين المواطنين على أساس الجنس والدين، لا حقوق للأمهات إلا بعد الموت فى الجنة، أو فى عيد الأم بإذاعة الأغانى فحسب، بلاد يكون فيها الأب هو الشرف وإن كان معدوم الضمير والشرف، يغتصب البنت الصغيرة فى الشارع أو فى البيت، بالقوة أو بخداع الحب، ثم يهرب منها ويعطيها العنوان الخطأ، تواجه البنت وحدها العالم الشرس، تصبح منبوذة محتقرة بلا شرف، إن لم يقتلها أبوها أو أخوها، قد يكون أبوها أو أخوها زير نساء، اغتصب العشرات من البنات البريئات وهرب منهن، لكنه يقدم على قتل ابنته أو أخته بدم بارد وضمير ميت، تحت اسم الدفاع عن شرفه، وهو فاقد شرفه منذ هرب من أول فتاة خدعها، ومنذ أول طفل له هرب منه ومن أمه.
دافعت السنين والعقود منذ منتصف القرن الماضى، عن حق الطفل فى الشرف بصرف النظر عن سلوك أبيه، قالوا إننى أدعو إلى فساد الأخلاق، مع أن العكس هو الصحيح، كنت أحاول إصلاح أخلاق الرجال، أجبرهم على المسؤولية الأخلاقية، الاعتراف بأطفالهم خارج الزواج وداخله، وأجبر المجتمع أيضا على العدل فلا يعاقب الطفل البرىء بسبب جريمة أبيه.
بدلا من علاج الظلم وإنصاف الطفل يهاجموننى، أغلبهم ذكور ليسوا رجالاً، يدافعون عن حقهم فى الفوضى الجنسية دون مسؤولية، لتقع المسؤولية على الطفل المولود، وأمه الصغيرة التى أوقعها الرجل بين أنيابه كالحمل الوديع، بدلا من عقاب الذئب المفترس الأكول يعاقب الحمل المأكول، عقاب الضحية وإطلاق سراح الجانى هى سمات المجتمعات العبودية.
لم يكن العلم اكتشف الحامض النووى، لمعرفة الأب عبر تحليل دمه ودم طفله، وكم تعذب ومات ملايين الأطفال وأمهاتهم بسبب هذا الظلم، واليوم بعد اكتشاف الحامض النووى، يتهرب الأب المعدوم الضمير من تحليل دمه، لأن القانون لا يفرض عليه أن يخضع للتحليل، يبيح له القانون المصرى الهروب من إثبات أبوته للطفل، القانون الطبقى الأبوى الذى يسانده الشرع والعرف والسلطة الحاكمة، لماذا يقبل المجتمع هذا الظلم البين للأطفال وأمهاتهم، لماذا تصمت النخبة المصرية ولا يؤرقها ضميرها لمشاركتها فى انتهاك حقوق الأبرياء من الضعفاء؟
الآلاف من الأطفال يتعذبون فى مصر كل يوم أمام باب مصلحة الطب الشرعى، أطفال هرب منهم الآباء فى قضايا إثبات النسب الأبوى، يرقد الأطفال الرضع فوق صدور أمهاتهم فى الشارع أمام الباب، ينتظرون حضور الأب، الذى لا يحضر، لأن القانون لا يفرض عليه الحضور، يطول الانتظار فى الشارع لهؤلاء الأطفال البائسين، وأمهاتهم الأكثر بؤسا، ينتظرون إلى الأبد فى مسرح العبث، لا يحضر جودو، ٢% من الآباء فقط يحضرون لأسباب مختلفة، إذا كان هناك ٢ مليون طفل ينتظرون ظهور الأب، فإن ١٦٠ ألف طفل منهم لا يسعده هذا الحظ، أما الأطفال السعداء الـ٤٠ ألفاً، الذين حضر آباؤهم ووافقوا على تحليل دمهم، فإن الطفل لا ينسب إلى أبيه إن فشل التحليل فى إثبات النسب، فى أحسن الحالات هناك نسبة خطأ فى التحاليل لا تقل عن ٢%، يعنى من الـ٤٠ ألف طفل المنتظرين نتيجة التحليل، فإن ٨٠٠ طفل منهم لا يحظى باسم الأب لمجرد الخطأ فى المعمل، أحيانا تلعب الرشوة دورا فى تزييف النتائج.
فى جميع الحالات التى يغيب فيها الأب أو ينتهى فيها التحليل بعدم ثبوت النسب فإن الطفل يصبح غير شرعى، غير شريف، ليس مواطنا مصريا كامل الحقوق الإنسانية، يحمل لقبا مهينا هو «مصرى بدون شهادة ميلاد»، غير كامل الأهلية، فى مصر أكثر من ثمانية ملايين طفل «بدون شهادة ميلاد» يعيشون دون حقوق على الإطلاق، إحدى الدراسات الأخيرة توضح أن فى مصر أجيالاً متعاقبة من أطفال بدون شهادة ميلاد، لا يدخلون مدارس ويموتون كما عاشوا دون اسم أو هوية أو شهادات ميلاد.
ألا تؤرق هذه الحقائق ضمير المجتمع المصرى؟ طالبت منذ نصف قرن بأن يحظى اسم الأم بالشرف ذاته مثل اسم الأب، اتهمونى بأننى أفسد أخلاق النساء، وتناسوا الفساد الأخلاقى الذى يعيشه الرجال، تجاهلوا عذاب الملايين من الأطفال غير الشرعيين ضحايا فساد الآباء.
أخيرا فى عام ٢٠٠٨ صدر تعديل لقانون الطفل، يعطى الطفل المجهول الأب الحق فى أن يحمل اسم أمه واسم «أب وهمى» أسم أى رجل ليحظى الطفل بشهادة ميلاد، أليس ذلك مضحكا؟ يحاول النظام الذكورى الاحتفاظ بشرف الرجل الوهمى، بدلا من الاعتراف بشرف الأمومة الحقيقى.
لماذا يدفن المجتمع رأسه كالنعامة فى الرمال؟ زينة طفلة عمرها ثلاثة عشر عاما، عاشت مع أبيها وأمها منذ ولدت، ثم تنكر الأب لابنته ورفض الاعتراف بها، كما حدث منذ سنين مضت للطفلة «لينا» التى أنكرها أبوها الفيشاوى، لكن بسبب قوة أسرة الأم، عائلة الدكتور الحناوى، وقوة الدفاع عنها قانونيا واجتماعيا وإعلاميا، حكم القاضى بحق الطفلة فى الانتساب لأبيها، وحظيت «لينا» بالشرف وشهادة الميلاد وكل الحقوق المنصوص عليها فى الدستور للمواطنين،
إلا أن هذه الحالة لم تكرر، لماذا؟ لأن القانون الذكورى العبودى لا يريد أن يمسه أى تغيير، إن تقديس الذكورة والسلطة الأبوية أهم من العدل، لهذا لم تحظ الابنة زينة باسم أبيها، ولأن أسرة أمها فقيرة لا تملك أجر المحامين، لم تستطع أمها وأسرتها الضعيفة من الطبقات الدنيا تعبئة الرأى العام ضد الأب المعدوم الضمير، رفض هذا الأب والد زينة أن يحلل دمه لإثبات النسب، لأن الأب غير مجبر قانونا على تحليل دمه، بعد تعديل قانون الطفل عام ٢٠٠٨،
وبعد أن عاشت زينة ١٣ عاما دون شهادة ميلاد ذاقت فيها الهوان والحرمان من الشرف، أصبح من حقها استخراج شهادة ميلاد باسم أمها واسم أب وهمى (حسب القانون الجديد)، ليكن أبوها اسمه محمد أو حسن أو حسين أو حسنين، أى اسم ذكورى وهمى تضعه فى شهادة ميلادها بدلا من اسم أبيها الحقيقى، فهل ترضى الابنة بهذا الكذب فى شهادة ميلادها؟ لكنها مضطرة أن تقبل الكذب لتحصل على الشرف.
وأنا أطالب هذا المجتمع بإخراج رأسه من تحت الرمال، أن يدرك أعضاء الأحزاب والجمعيات والمدافعون عن حقوق الإنسان، أن الدفاع عن شرف الطفل وكرامته لا يقل أهمية عن محاربة الفقر والأمية، لا تقل أهمية عن النضال من أجل الحرية والعدالة ونزاهة الانتخابات، ينشغل الجميع بمن ينجح فى البرلمان أو من يرث العرش أكثر من حقوق الملايين من الأطفال والنساء الضائعة على رأسها حق الشرف والكرامة الإنسانية.
منذ بضعة أعوام حين طالبنا بأن يحظى اسم الأم بالشرف كاملا مثل اسم الأب لإنقاذ الملايين من الأطفال غير الشرعيين فى الشوارع اعترضت بعض القيادات النخبوية وقالوا: فلنحارب الفقر والأمية أولا، هل شرف الإنسان يقل قيمة وليس له أولوية فى برامج الأحزاب والجمعيات؟
١٦/ ٢/ ٢٠١٠
ملايين الأطفال المعذبون فى الأرض، لسوء حظهم ولدوا فى بلاد يغيب فيها العدل، يفرق الدستور فيها بين المواطنين على أساس الجنس والدين، لا حقوق للأمهات إلا بعد الموت فى الجنة، أو فى عيد الأم بإذاعة الأغانى فحسب، بلاد يكون فيها الأب هو الشرف وإن كان معدوم الضمير والشرف، يغتصب البنت الصغيرة فى الشارع أو فى البيت، بالقوة أو بخداع الحب، ثم يهرب منها ويعطيها العنوان الخطأ، تواجه البنت وحدها العالم الشرس، تصبح منبوذة محتقرة بلا شرف، إن لم يقتلها أبوها أو أخوها، قد يكون أبوها أو أخوها زير نساء، اغتصب العشرات من البنات البريئات وهرب منهن، لكنه يقدم على قتل ابنته أو أخته بدم بارد وضمير ميت، تحت اسم الدفاع عن شرفه، وهو فاقد شرفه منذ هرب من أول فتاة خدعها، ومنذ أول طفل له هرب منه ومن أمه.
دافعت السنين والعقود منذ منتصف القرن الماضى، عن حق الطفل فى الشرف بصرف النظر عن سلوك أبيه، قالوا إننى أدعو إلى فساد الأخلاق، مع أن العكس هو الصحيح، كنت أحاول إصلاح أخلاق الرجال، أجبرهم على المسؤولية الأخلاقية، الاعتراف بأطفالهم خارج الزواج وداخله، وأجبر المجتمع أيضا على العدل فلا يعاقب الطفل البرىء بسبب جريمة أبيه.
بدلا من علاج الظلم وإنصاف الطفل يهاجموننى، أغلبهم ذكور ليسوا رجالاً، يدافعون عن حقهم فى الفوضى الجنسية دون مسؤولية، لتقع المسؤولية على الطفل المولود، وأمه الصغيرة التى أوقعها الرجل بين أنيابه كالحمل الوديع، بدلا من عقاب الذئب المفترس الأكول يعاقب الحمل المأكول، عقاب الضحية وإطلاق سراح الجانى هى سمات المجتمعات العبودية.
لم يكن العلم اكتشف الحامض النووى، لمعرفة الأب عبر تحليل دمه ودم طفله، وكم تعذب ومات ملايين الأطفال وأمهاتهم بسبب هذا الظلم، واليوم بعد اكتشاف الحامض النووى، يتهرب الأب المعدوم الضمير من تحليل دمه، لأن القانون لا يفرض عليه أن يخضع للتحليل، يبيح له القانون المصرى الهروب من إثبات أبوته للطفل، القانون الطبقى الأبوى الذى يسانده الشرع والعرف والسلطة الحاكمة، لماذا يقبل المجتمع هذا الظلم البين للأطفال وأمهاتهم، لماذا تصمت النخبة المصرية ولا يؤرقها ضميرها لمشاركتها فى انتهاك حقوق الأبرياء من الضعفاء؟
الآلاف من الأطفال يتعذبون فى مصر كل يوم أمام باب مصلحة الطب الشرعى، أطفال هرب منهم الآباء فى قضايا إثبات النسب الأبوى، يرقد الأطفال الرضع فوق صدور أمهاتهم فى الشارع أمام الباب، ينتظرون حضور الأب، الذى لا يحضر، لأن القانون لا يفرض عليه الحضور، يطول الانتظار فى الشارع لهؤلاء الأطفال البائسين، وأمهاتهم الأكثر بؤسا، ينتظرون إلى الأبد فى مسرح العبث، لا يحضر جودو، ٢% من الآباء فقط يحضرون لأسباب مختلفة، إذا كان هناك ٢ مليون طفل ينتظرون ظهور الأب، فإن ١٦٠ ألف طفل منهم لا يسعده هذا الحظ، أما الأطفال السعداء الـ٤٠ ألفاً، الذين حضر آباؤهم ووافقوا على تحليل دمهم، فإن الطفل لا ينسب إلى أبيه إن فشل التحليل فى إثبات النسب، فى أحسن الحالات هناك نسبة خطأ فى التحاليل لا تقل عن ٢%، يعنى من الـ٤٠ ألف طفل المنتظرين نتيجة التحليل، فإن ٨٠٠ طفل منهم لا يحظى باسم الأب لمجرد الخطأ فى المعمل، أحيانا تلعب الرشوة دورا فى تزييف النتائج.
فى جميع الحالات التى يغيب فيها الأب أو ينتهى فيها التحليل بعدم ثبوت النسب فإن الطفل يصبح غير شرعى، غير شريف، ليس مواطنا مصريا كامل الحقوق الإنسانية، يحمل لقبا مهينا هو «مصرى بدون شهادة ميلاد»، غير كامل الأهلية، فى مصر أكثر من ثمانية ملايين طفل «بدون شهادة ميلاد» يعيشون دون حقوق على الإطلاق، إحدى الدراسات الأخيرة توضح أن فى مصر أجيالاً متعاقبة من أطفال بدون شهادة ميلاد، لا يدخلون مدارس ويموتون كما عاشوا دون اسم أو هوية أو شهادات ميلاد.
ألا تؤرق هذه الحقائق ضمير المجتمع المصرى؟ طالبت منذ نصف قرن بأن يحظى اسم الأم بالشرف ذاته مثل اسم الأب، اتهمونى بأننى أفسد أخلاق النساء، وتناسوا الفساد الأخلاقى الذى يعيشه الرجال، تجاهلوا عذاب الملايين من الأطفال غير الشرعيين ضحايا فساد الآباء.
أخيرا فى عام ٢٠٠٨ صدر تعديل لقانون الطفل، يعطى الطفل المجهول الأب الحق فى أن يحمل اسم أمه واسم «أب وهمى» أسم أى رجل ليحظى الطفل بشهادة ميلاد، أليس ذلك مضحكا؟ يحاول النظام الذكورى الاحتفاظ بشرف الرجل الوهمى، بدلا من الاعتراف بشرف الأمومة الحقيقى.
لماذا يدفن المجتمع رأسه كالنعامة فى الرمال؟ زينة طفلة عمرها ثلاثة عشر عاما، عاشت مع أبيها وأمها منذ ولدت، ثم تنكر الأب لابنته ورفض الاعتراف بها، كما حدث منذ سنين مضت للطفلة «لينا» التى أنكرها أبوها الفيشاوى، لكن بسبب قوة أسرة الأم، عائلة الدكتور الحناوى، وقوة الدفاع عنها قانونيا واجتماعيا وإعلاميا، حكم القاضى بحق الطفلة فى الانتساب لأبيها، وحظيت «لينا» بالشرف وشهادة الميلاد وكل الحقوق المنصوص عليها فى الدستور للمواطنين،
إلا أن هذه الحالة لم تكرر، لماذا؟ لأن القانون الذكورى العبودى لا يريد أن يمسه أى تغيير، إن تقديس الذكورة والسلطة الأبوية أهم من العدل، لهذا لم تحظ الابنة زينة باسم أبيها، ولأن أسرة أمها فقيرة لا تملك أجر المحامين، لم تستطع أمها وأسرتها الضعيفة من الطبقات الدنيا تعبئة الرأى العام ضد الأب المعدوم الضمير، رفض هذا الأب والد زينة أن يحلل دمه لإثبات النسب، لأن الأب غير مجبر قانونا على تحليل دمه، بعد تعديل قانون الطفل عام ٢٠٠٨،
وبعد أن عاشت زينة ١٣ عاما دون شهادة ميلاد ذاقت فيها الهوان والحرمان من الشرف، أصبح من حقها استخراج شهادة ميلاد باسم أمها واسم أب وهمى (حسب القانون الجديد)، ليكن أبوها اسمه محمد أو حسن أو حسين أو حسنين، أى اسم ذكورى وهمى تضعه فى شهادة ميلادها بدلا من اسم أبيها الحقيقى، فهل ترضى الابنة بهذا الكذب فى شهادة ميلادها؟ لكنها مضطرة أن تقبل الكذب لتحصل على الشرف.
وأنا أطالب هذا المجتمع بإخراج رأسه من تحت الرمال، أن يدرك أعضاء الأحزاب والجمعيات والمدافعون عن حقوق الإنسان، أن الدفاع عن شرف الطفل وكرامته لا يقل أهمية عن محاربة الفقر والأمية، لا تقل أهمية عن النضال من أجل الحرية والعدالة ونزاهة الانتخابات، ينشغل الجميع بمن ينجح فى البرلمان أو من يرث العرش أكثر من حقوق الملايين من الأطفال والنساء الضائعة على رأسها حق الشرف والكرامة الإنسانية.
منذ بضعة أعوام حين طالبنا بأن يحظى اسم الأم بالشرف كاملا مثل اسم الأب لإنقاذ الملايين من الأطفال غير الشرعيين فى الشوارع اعترضت بعض القيادات النخبوية وقالوا: فلنحارب الفقر والأمية أولا، هل شرف الإنسان يقل قيمة وليس له أولوية فى برامج الأحزاب والجمعيات؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق